الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
نزار غالب فليحان

بعد نكسة حزيران عام 1967، اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن منصة لكفاحها المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، الكفاح الذي ألقى بظلاله على الدولة المستضيفة، ما أدى إلى اتخاذ الأردن قراراً بإعلان الحرب على المنظمة في أيلول العام 1970، حرب تم على إثرها ترحيل كوادر المنظمة ومقاتليها إلى بيروت.

وفي العام 1982 اجتاحت إسرائيل بيروت، حاصرتها وارتكبت رفقة حزب الكتائب اللبناني واحدة من أبشع جرائم العصر بحق المدنيين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، لتبعد حتى بداية أيلول العام 1982 كوادر المنظمة هذه المرة إلى سوريا وتونس واليمن والعراق والجزائر والسودان.

ما بين أيلولين، وعلى مدى اثني عشر عاماً، أنجز العدو الصهيوني بدعم وتأييد من معظم الأنظمة العربية تصفية المنظمة كجسم عسكري يمثل فلسطين ويدافع عن تحررها.

من هنا، ومن هذه اللحظة، ومن على خطوط الانكسار، أطلق محمود درويش "مديح الظل العالي"، وهي ذات اللحظة التي يعيشها الفلسطيني اليوم في غزة، ربما انزاح أيلول قليلاً ليحل في تشرين، لكن ثمة خريف، خريف آخر يدنو من الأبواب.

بحرٌ لأيلولَ الجديدِ. خريفُنا يدنو من الأبوابِ...
بحرٌ  للنشيدِ المرِّ. هيَّأنا لبيروتَ القصيدةَ كُلَّها.
بحرٌ لمنتصفِ النهارِ
بحرٌ لراياتِ الحمامِ، لظلِّنا، لسلاحنا الفرديِّ
بحرٌ’ للزمانِ المستعارِ
ليديكَ، كمْ من موجةٍ سرقتْ يديكَ
من الإشارةِ وانتظاري

يُشيِّعُ درويش في بيروت مقاتلي المنظمة بنبرة خالطها الحزن وخنقتها الخيبة، خيبة من أشقاء لم يقفوا مكتوفي الأيدي حيال إلغاء الفلسطيني فحسب، بل هم شاركوا في ذبح المقاومة الفلسطينية هناك، تماماً كما يحصل اليوم في غزة، وربما أجَّل درويش في بيروت حزنه نحو رصد وترقب انتصار فلسطيني آتٍ على عالَم تحالف كي يهزمه، لكن كيف ومن أين للشعب الفلسطيني اليوم أن يلتقط حزنه ويستشرف النصر والعرب من حوله استمرأوا الخطابة والفرار؟

هي هجرةٌ أخرى …
فلا تكتب وصيتكَ الأخيرةَ والسلاما.
سَقطَ السقوطُ وأنت تعلو
فكرةً ويداً وشاما!
لا بَرَّ  إلا ساعداكْ
لا بحرَ إلاَّ  الغامضُ الكحليُّ فيكْ
فتقمَّصِ الأشياءَ كي تتقمَّصَ الأشياءُ خطوتكَ الحراما
واسحبْ ظلالكَ من بلاطِ الحاكم  العربي حتى لا يُعَلِّقَها وساما
واكسرْ ظلالك كُلَّها كيلا يمدُّوها بساطاً  أو ظلاما

كسروكَ، كم كسروكَ كي يقفوا على ساقيك عرشا
وتقاسموك وأنكروك وخبَّأوك وأنشأوا ليديكَ جيشا
حطوكَ في حجرٍ … وقالوا: لا تُسَلّم
ورموك في بئرٍ … وقالوا: لا تُسَلِّم
وأطلْتَ حربَكَ، يا ابن أمِّي
ألفَ عامٍ ألفَ عامٍ ألفَ عامٍ في النهار

فأنكروكَ لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة والفرار

ومَن للشعب الفلسطيني والعرب يتخلون عنه اليوم في غزة ليس كما تركوه وحيداً في الأردن وفي بيروت، بل هم اليوم يرفعون أيديهم عن جراحات الفلسطينيين بشكل سافر ووقح، وهم يتابعون موته على مدار الساعة بالصوت والصورة، ولا يحركون ساكناً؟ دم الفلسطيني هدفهم، رحيله عن أرضه ضالتهم، تصفية ونسف قضيته شأنهم. يحسبون زمن صموده بالدقيقة والثانية، يتصالحون مع القضاء عليه، ومنهم من راح يلوم الكيان الصهيوني لأنه تأخر في إنجاز تلك المقتلة، في لحظة تَعَرٍّ وسقوط صارخ للأقنعة.

أشلاؤنا أسماؤنا. لا …لا مَفَرُّ .
سقطَ  القناعُ عن القناعِ عن القناعِ
سقطَ القناعُ
لا إخوةٌ لك يا أخي، لا أصدقاءُ
يا صديقي، لا قلاع
لا الماءُ عندكَ، لا الدواءُ ولا السماءُ و لا الدماءُ ولا الشراع
ولا الأمامُ ولا الوراءُ
سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ
سقطَ القناع
ولا أحدْ إلاَّك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان
فاجعل كلَّ متراسٍ بَلَدْ
لا…لا أحَدْ
سقط القناعُ
عَرَبٌ أطاعوا رُومَهم
عَرَبٌ وباعوا رُوْحَهُم
عَرَبٌ …وضاعوا
سقطَ القناعُ
واللهُ غَمَّسَ باسمك البحريِّ أسبوعَ الولادةِ واستراحَ إلى الأبَدْ
كُنْ أنتَ .كُنْ حتى تكونْ !
لا…لا أحَدْ
يا خالقي في هذه الساعاتِ من عَدَمٍ تَجَلَّ !
لعلَّ لي حُلُماً لأعبدَهُ
لعلَّ !
علمتني الأسماءَ
لولا
هذه الدولُ اللقيطةُ لم تكنْ بيروت ثكلى

وبيروت كانت موتاً في الصباح وقتلاً في الظهيرة واحتراقاً المساء وألماً في الليل، تماماً كما غزة الآن، موت على مدار الساعة، وغزة اليوم كما بيروت الأمس، معلقة في الهواء، كطير يبحث في جناحين مكسورين عن خلاص، طير يحث روحه كي تحيا ليحيا، غزة بلا سند وبلا مدد، بلا ماء يروي عطش ضحاياها، بلا هواء يحمل إلى أطفالها الضحكات. ولم يختلف حال العرب عن حالهم ساعة بيروت، بل تردى وبات في أسفل درك، ليس حيال ما يجري في غزة الذبيحة فحسب، بل حيال ما يطال وسوف يطال العرب في كل شبر من بلادهم.

كُنَّا هناكَ. ومن هنا ستهاجر العَرَبُ
لعقيدةٍ أخرى. وتغتربُ
قصبٌ هياكلنا
وعروشنا قصبُ
في كُلِّ مئذنةٍ
حاوٍ   ومغتصبُ
يدعو لأندلسٍ
إنْ حُوصرتْ حَلَبُ.

كم يشبه اليوم أمسه، كم نحن غرقى في الخذلان، كم من السهل على المرء أن يتنبأ بسقوطه من جديد، مادامت أنظمة قمعية عميلة تجثم على صدور شعوبها، الشعوب التي لأنها تعشق الحرية ثارت... فأبيدت.

كم كان محمود درويش دقيقاً إلى هذا الحد في تعريته الحالة العربية المزرية. وكم هو اليوم حاضر بقراءته الملازمة لخيباتنا المتتالية. حتى ليتبادر إلى الذهن أن الرجل تنبأ، وربما عرض حال أمة لن تعرف إلا الخراب.

ليفانت - نزار غالب فليحان 

 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!